الفصل الثاني

الأدلة التوراتية على صدق النبوَّة

 

يقدم لنا الله في تثنية 18:17-20 أول دليل على صدق النبوة، وذلك على فم موسى الكليم:

(قَالَ لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ وَيَكُونُ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ لِكَلَامِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ وَأَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِي كَلَاماً لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذلِكَ النَّبِيُّ)

توضح هذه الآيات الأمر والعقاب الذي ينتج عن عصيانه يقول الله إنه سيطالب الإنسان الذي يعصى نبيَّه الذي ينطق باسمه ثم يقول الله بعد ذلك في الآيتين 21 و22 (وإن قلتَ في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلّم به النبي باسم الرب ولم يحدُث ولم يصِر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطُغيانٍ تكلم به النبي فلا تخَفْ منه).

 

والمقصود أننا نعرف صدق نبوَّة النبي بتحقيق نبوته.

 

ونجد نموذجاً لهذا في الملوك الأول 17 و18 عندما تنبأ النبي إيليا للملك أخآب أن المطر سيتوقف فقال: (حيٌّ هو الرب إله إسرائيل الذي وقفتُ أمامه، أنه لا يكون طل ولا مطرٌ في هذه السنين إلا عند قولي).

 

وانتظر الشعب ليروا ما سيحدث وربما لما امتنع المطر لبضعة شهور ظنّوا أن هذا أمر غير عادي ولكن المطر انقطع لثلاث سنوات ونصف السنة بعدها قال إيليا للملك: (اشدُد وانزل لئلا يمنعك المطر) فانهمر المطر، وعرف الشعب كله أن إيليا هو حقاً نبي الله العلي القدير الذي وحده يجب أن يُعبَد.

 

وهناك امتحان آخر يوضح صدق نبوة النبي، فقد جاء في التثنية 13:1-4:

(إِذَا قَامَ فِي وَسَطِكَ نَبِيٌّ أَوْ حَالِمٌ حُلْماً، وَأَعْطَاكَ آيَةً أَوْ أُعْجُوبَةً، وَلَوْ حَدَثَتِ الْآيَةُ أَوِ الْأُعْجُوبَةُ الَّتِي كَلَّمَكَ عَنْهَا قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا وَنَعْبُدْهَا، فَلَا تَسْمَعْ لِكَلَامِ ذلِكَ النَّبِيِّ أَوِ الْحَالِمِ ذلِكَ الْحُلْمَ وَرَاءَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ (يهوه إلوهيم) تَسِيرُونَ، وَإِيَّاهُ تَتَّقُونَ، وَوَصَايَاهُ تَحْفَظُونَ، وَصَوْتَهُ تَسْمَعُونَ، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، وَبِهِ تَلْتَصِقُونَ)

ومن هذه الآيات يتضح أن المعجزات وحدها لا تكفي لبرهنة صحة رسالة النبي، بل يجب أن تتَّفق رسالته مع وحي من سبقوه من أنبياء الله الصادقين ونقدم مثلاً من رجلين قال كلٌّ منهما إنه نبي للرب، ولكنهما قدَّما رسالتين متناقضتين أولهما النبي إرميا الذي أعلن أن الملك نبوخذ نصر البابلي قادم ليخرب أورشليم ويسبي أهلها لأنهم انحرفوا عن عبادة الله وعبدوا الأوثان وأمر الرب إرميا أن يضع على عنقه نير الثيران ويذهب لمقابلة الملك صدقيا (ملك أورشليم) ويقول له: (هكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِي اصْنَعْ لِنَفْسِكَ رُبُطاً وَأَنْيَاراً وَاجْعَلْهَا عَلَى عُنْقِكَ وَكَلَّمْتُ صِدْقِيَّا مَلِكَ يَهُوذَا بِكُلِّ هذَا الْكَلَامِ، قَائِلاً: أَدْخِلُوا أَعْنَاقَكُمْ تَحْتَ نِيرِ مَلِكِ بَابِلَ وَاخْدِمُوهُ وَشَعْبَهُ وَاحْيَوْا لِمَاذَا تَمُوتُونَ أَنْتَ وَشَعْبُكَ بِالسَّيْفِ بِالْجُوعِ وَالْوَبَإِ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَنِ الْأُمَّةِ الَّتِي لَا تَخْدِمُ مَلِكَ بَابَِلَ؟ فَلَا تَسْمَعُوا لِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَكُمْ: لَا تَخْدِمُوا مَلِكَ بَابِلَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ بِالْكَذِبِ) (إرميا 27:2 و12-14)

 

ولكن جاء نبي آخر قال عكس ما قاله إرميا ويقول النبي إرميا في أصحاح 28:1-9 من سفره:

(وَحَدَثَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ابْتِدَاءِ مُلْكِ صِدْقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ، أَنَّ حَنَنِيَّا بْنَ عَزُورَ النَّبِيَّ الَّذِي مِنْ جِبْعُونَ قَالَ لِي فِي بَيْتِ الرَّبِّ أَمَامَ الْكَهَنَةِ وَكُلِّ الشَّعْبِ: (هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: قَدْ كَسَرْتُ نِيرَ مَلِكِ بَابِلَ فِي سَنَتَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ أَرُدُّ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ كُلَّ آنِيَةِ بَيْتِ الرَّبِّ الَّتِي أَخَذَهَا نَبُوخَذْنَصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ مِنْ هذَا الْمَوْضِعِ وَذَهَبَ بِهَا إِلَى بَابِلَ لِأَنِّي أَكْسِرُ نِيرَ مَلِكِ بَابِلَ)

فَكَلَّمَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ حَنَنِيَّا النَّبِيَّ أَمَامَ الْكَهَنَةِ وَأَمَامَ كُلِّ الشَّعْبِ الْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ وَقَالَ: (آمِينَ هكَذَا لِيَصْنَعِ الرَّبُّ لِيُقِمِ الرَّبُّ كَلَامَكَ الَّذِي تَنَبَّأْتَ بِهِ فَيَرُدَّ آنِيَةَ بَيْتِ الرَّبِّ وَكُلَّ السَّبْيِ مِنْ بَابِلَ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ وَلكِنِ اسْمَعْ هذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهَا فِي أُذُنَيْكَ وَفِي آذَانِ كُلِّ الشَّعْبِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي وَقَبْلَكَ مُنْذُ الْقَدِيمِ وَتَنَبَّأُوا عَلَى أَرَاضٍ كَثِيرَةٍ وَعَلَى مَمَالِكَ عَظِيمَةٍ بِالْحَرْبِ وَالشَّرِّ وَالْوَبَإِ النَّبِيُّ الَّذِي تَنَبَّأَ بِالسَّلَامِ، فَعِنْدَ حُصُولِ كَلِمَةِ النَّبِيِّ عُرِفَ ذلِكَ النَّبِيُّ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَهُ حَقّاً).

 

هنا يطبّق النبي إرميا امتحانين ليبرهن صحة نبوة النبي: أولاً: ذكَّر سامعيه أن رسالته تتوافق مع وحي من سبقه من الأنبياء، وثانياً: أنهم سيعرفون النبي الصادق من الكذاب عندما تتحقق نبوة النبي الصادق.

 

وأخذ النبي الكاذب حننيا النير عن عنق النبي إرميا وكسره!

 

ولنتخيَّل ما حدث وقتها في أورشليم: قال إرميا إن الله سيدمر العاصمة ويُميت أهل البلاد بالجوع والوبأ والسيف، إلا إذا استسلموا للغازي نبوخذ نصر ملك بابل، فيسبيهم إلى بابل، ولكنه سيتركهم أحياء وبعد 70 سنة سيُعيد الرب أولادهم إلى بلادهم الأصلية (إرميا 29:10) وواضح أن هذه الرسالة (في نظر ملك بني إسرائيل) خيانة عظمى للوطن! إنها رسالة استسلام ولكن من يريد أن يموت بسبب عصيانه لله؟

وفي الجانب الآخر نرى النبي الكاذب حننيا يقول إن الله سينجي بني إسرائيل، وعليه فمن الأفضل أن يبقوا في بلادهم سادةً أحراراً فمن يريد أن يصبح عبداً! ثم أنهم لو استسلموا لبابل فربما يقتلهم ملك بني إسرائيل باعتبارهم خونة.

 

واختيار الشعب أن يتبعوا رسالة إرميا أو رسالة حننيا هو اختيار بين حياة أو موت حرية أو عبودية فكيف يقررون؟ إنهم لن يعرفوا إن كانوا سيموتون أو يحيون إلا بعد معركة ملكهم مع بابل: ينتصر فيها أو ينهزم فإذا انهزم سيكون إرميا صادقاً، ولكن احتمال نجاتهم يكون قد انتهى ولذلك أرسل الرب عن طريق إرميا النبي مزيداً من الوحي:

(ثُمَّ صَارَ كَلَامُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ، بَعْدَ مَا كَسَرَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ النِّيرَ عَنْ عُنُقِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ: (اذْهَبْ وَقُلْ لِحَنَنِيَّا: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ كَسَرْتَ أَنْيَارَ الْخَشَبِ وَعَمِلْتَ عِوَضاً عَنْهَا أَنْيَاراً مِنْ حَدِيدٍ قَدْ جَعَلْتُ نِيراً مِنْ حَدِيدٍ عَلَى عُنُقِ كُلِّ هؤُلَاءِ الشُّعُوبِ لِيَخْدِمُوا نَبُوخَذْنَصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ، فَيَخْدِمُونَهُ) فَقَالَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ لِحَنَنِيَّا النَّبِيِّ: (اسْمَعْ يَا حَنَنِيَّا إِنَّ الرَّبَّ لَمْ يُرْسِلْكَ، وَأَنْتَ قَدْ جَعَلْتَ هذَا الشَّعْبَ يَتَّكِلُ عَلَى الْكَذِبِ لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَئَنَذَا طَارِدُكَ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ هذِهِ السَّنَةَ تَمُوتُ لِأَنَّكَ تَكَلَّمْتَ بِعِصْيَانٍ عَلَى الرَّبِّ) فَمَاتَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ) (إرميا 28:12-17)

وهكذا لم يطُل انتظار أهل أورشليم حتى عرفوا إجابة تساؤلهم، فقد تنبأ حننيا في الشهر الخامس ومات في الشهر السابع، كما قال إرميا النبي وكان على الشعب أن يثق في نبوة إرميا ويستسلم لملك بابل.

 

وبعد خمس سنوات سقطت أورشليم في يد ملك بابل، وتحققت نبوة إرميا، ويقول في إرميا 39:6 و7:

(فَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ بَنِي صِدْقِيَّا فِي رَبْلَةَ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ كُلَّ أَشْرَافِ يَهُوذَا وَأَعْمَى عَيْنَيْ صِدْقِيَّا وَقَيَّدَهُ بِسَلَاسِلِ نُحَاسٍ لِيَأْتِيَ بِهِ إِلَى بَابِلَ)

تحقيق نبوات أخرى من العهد القديم

لقد تحققت كل نبوات العهد القديم، وكانت المدة بين النبوة وتحقيقها قصيرة أحياناً، كما كان الحال مع انعدام المطر ونزوله أيام إيليا (3 سنوات ونصف)، وكما كان الحال في موت حننيا (أسابيع قليلة) وهكذا رأى الناس تحقيق النبوَّة أثناء حياتهم، وآمنوا بصدق رسالة النبي ولكن قروناً مضت قبل تحقيق بعض النبوات وهناك نبوات لم تتحقق بعد وإليك بعض الأمثلة:

 

أ. في القسم الثاني فصل 2 قرأنا نبوة دانيال 8:20 و21 و9:25 و26 أن بابل ستسقط في يد مادي وفارس، ثم ينتصر اليونانيون (وقد تحققت النبوة بعد النطق بها ب270 سنة) وتنبأ دانيال أيضاً أن المسيح يأتي و(يُقطع وليس له)، وتُخرب أورشليم ويُدمَّر الهيكل مرة ثانية (وقد تحقق هذا عام 70م)

ب. تنبأ النبي إشعياء عام 750ق م أن القائد العسكري الفارسي الذي سيهزم بابل (كما تنبأ دانيال) سيكون اسمه (كورش) وتنبأ أيضاً أن كورش سيأمر برجوع بني إسرائيل المسبيين إلى أرضهم فيبنون هيكلهم وتقول النبوة في إشعياء 44:24-28:

 

هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ:

(أَنَا الرَّبُّ صَانِعٌ كُلَّ شَيْءٍ،

نَاشِرٌ السَّمَاوَاتِ وَحْدِي

بَاسِطٌ الْأَرْضَ مَنْ مَعِي؟

مُبَطِّلٌ آيَاتِ الْمُخَادِعِينَ،

وَمُحَمِّقٌ الْعَرَّافِينَ

مُقِيمٌ كَلِمَةَ عَبْدِهِ،

وَمُتَمِّمٌ رَأْيَ رُسُلِهِ

الْقَائِلُ عَنْ أُورُشَلِيمَ: سَتُعْمَرُ

الْقَائِلُ عَنْ كُورَشَ: رَاعِيَّ،

فَكُلَّ مَسَرَّتِي يُتَمِّمُ

وَيَقُولُ عَنْ أُورُشَلِيمَ: سَتُبْنَى،

وَلِلْهَيْكَلِ: سَتُؤَسَّسُ)

 

وقد تحققت هذه النبوة كما يخبرنا سفر عزرا الذي كُتب بعد النبوة بنحو 300 سنة، فيقول عزرا 1:1 و2 و7:

(في السَّنَةِ الْأُولَى لِكُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ نَبَّهَ الرَّبُّ رُوحَ كُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ فَأَطْلَقَ نِدَاءً فِي كُلِّ مَمْلَكَتِهِ وَبِالْكِتَابَةِ أَيْضاً قَائِلاً: (هكَذَا قَالَ كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ: جَمِيعُ مَمَالِكِ الْأَرْضِ دَفَعَهَا لِي الرَّبُّ إِلهُ السَّمَاءِ، وَهُوَ أَوْصَانِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتاً فِي أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُوذَا وَالْمَلِكُ كُورَشُ أَخْرَجَ آنِيَةَ بَيْتِ الرَّبِّ الَّتِي أَخْرَجَهَا نَبُوخَذْنَصَّرُ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَعَلَهَا فِي بَيْتِ آلِهَتِهِ)

هذه نبوَّة ملفتة للنظر، فقد هزم كورشُ ملكُ فارس (إيران) بابلَ (العراق) عام 539 ق م  وكان اليهود أسرى في بابل وكانت سياسة كورش أن يعيد الشعوب إلى بلادهم الأصلية، وكان يأمرهم أن يعيدوا بناء هياكل عبادتهم، كما كان يأمر كل شعبٍ أن يطلب من (إلهه) أن يتوسط أمام إلهَي كورش (بِيل ونَبو) لخير الملك كورش وخير مملكته وقد جاء هذا في وثيقة محفوظة اليوم في المتحف البريطاني، تقول: (ليت كل الآلهة التي أعدْتُ سكنها في مدنها المقدسة أن تطلب يومياً طول حياةٍ لي من إلهَيَّ: بِيل ونَبو، وأن يوصوهما بي).

 

فلتحقيق نبوة إشعياء أقام الله ملكاً في فارس ليهزم بابل، يكون متسامحاً مع عبادات الشعوب التي هزمتها بابل، فيعيدهم لأراضيهم ليدعوا له بطول العمر فأعاد كورشُ اليهودَ الذين لم تكن لهم قيمة كبيرة (إلا أن يجيء المسيح مخلص العالم من وسطهم).

 

وبسبب غرابة تحقيق هذه النبوة قال أصحاب (نظرية الوثائق) (الذين ينكرون النبوات والمعجزات) إن نبوة إشعياء لا بد كُتِبت بعد عام 500 ق م (أي بعد قيام الملك كورش، وبعد تحقيق النبوة)!

 

ج. تنبأ النبي حزقيال حوالي عام 590 ق م فقال إن الملك نبوخذ نصر سيستولي على مدينة صور (في لبنان حالياً) فتصبح (مَبْسَطاً للشِباك) و(لا تُبْنَين بعد) (حزقيال 26:14) وفي عام 586 ق م حاصر نبوخذ نصر صور واستولى عليها بعد 13 سنة من الحصار، عام 573 ق م، فتحقق أول جزء من هذه النبوة، وشاهد تحقيقها معاصرو النبي أما الجزء الثاني من النبوة فصدَق إلى يومنا هذا فمدينة صور الحالية لم تُبْنَ في موقع صور القديمة، فلم تُبْن صور القديمة أبداً ولا زال الصيادون يبسطون شِباكهم على موقعها القديم.

 

د. تنبأ النبي ميخا عام 750 ق م عن خراب مدينة السامرة، فتحقَّقت نبوته بعد بضع مئات من السنين قال: (فَأَجْعَلُ السَّامِرَةَ خَرِبَةً فِي الْبَرِّيَّةِ، مَغَارِسَ لِلْكُرُومِ، وَأُلْقِي حِجَارَتَهَا إِلَى الْوَادِي، وَأَكْشِفُ أُسُسَهَا) (ميخا 1:6) وقد بقيت المدينة مركزاً هاماً للتجارة حتى أيام المسيح وبعدها ولكنها تدمرت، وأُلقي بحجارة أساسات مبانيها إلى الوادي واليوم تجد أشجار الكروم مزروعة مكان المدينة القديمة.

 

هـ. كتب موسى كلمات سفر اللاويين 26:31-33 قبل مجيء المسيح بألف ومئتي سنة، وقال إنه إن لم يؤمن أسباط بني إسرائيل بالمسيح، فسيحل عليهم عقابٌ رهيب: (وَأُصَيِّرُ مُدُنَكُمْ خَرِبَةً وَمَقَادِسَكُمْ مُوحِشَةً، وَلَا أَشْتَمُّ رَائِحَةَ سُرُورِكُمْ وَأُوحِشُ الْأَرْضَ... وَأُذَرِّيكُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَأُجَرِّدُ وَرَاءَكُمُ السَّيْفَ) ومعروف أن سبي بني إسرائيل تمَّ مرتين: الأول إلى بابل زمن النبي إرميا، والثاني لما رفضوا المسيح (عام 30م) فجاء تيطس الروماني عام 70م وأخرب أورشليم، فتشتَّت معظم اليهود بين الأمم وإلى يومنا هذا لم يبنوا هيكلهم ليقدموا ذبائحهم فيه.

 

ومن تحقيق هذه النبوات نتعلم مبادئ هامة:

 

نحتاج دوماً إلى شاهدين أو أكثر

قال الله على فم موسى إن النبي الصادق هو الذي تتحقق نبواته وهذا يعني ضرورة وجود شاهدين: الله، والنبي نفسه ومثال على ذلك أن النبي إيليا أعلن انقطاع المطر، فكان النبي هو الشاهد الأول على صدق نبوته ولما امتنع المطر ثلاث سنين وستة أشهر، ولم ينزل حتى طلب إيليا نزوله، أصبح الله الشاهد الثاني، لأنه حقق كلمات إيليا وعندما تنبأ إرميا أن النبي الكاذب حننيا سيموت كان إرميا هو الشاهد الأول فلما أمات الله حننيا صار الله الشاهد الثاني، لأنه حقق كلمات إرميا وقال الله في التثنية 17:6 (عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ شُهُودٍ يُقْتَلُ الَّذِي يُقْتَلُ لَا يُقْتَلْ عَلَى فَمِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ) وينطبق المبدأ نفسه على كل جريمة فنقرأ في التثنية 19:15 (لَا يَقُومُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى إِنْسَانٍ فِي ذَنْبٍ مَا أَوْ خَطِيَّةٍ مَا مِنْ جَمِيعِ الْخَطَايَا الَّتِي يُخْطِئُ بِهَا عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلَى فَمِ ثَلَاثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الْأَمْرُ).

 

ويصدّق القرآن على ضرورة وجود شاهدَين، فيقول في سورة البقرة 2:282 (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) وجاء في سورة المائدة 5:106 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وجاء في سورة النور 24:4 (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

 

فإن طُلِب شاهدان أو أربعة شهود في الأمور الدنيوية، فكم يكون هاماً أن يكون لنا شاهدان على الأقل في الأمور السماوية التي تحدد مصيرنا الأبدي!

 

لنفترض أن رجلاً يمشي في شوارع القاهرة أو طهران يقول إنه المهدي، فكيف نعرف صحّة ادّعائه؟ أو كيف نعرف صحّة ادّعاء رجل يسير في شوارع نيويورك أو القدس يقول إنه المسيح وقد جاء ثانيةً إلى أرضنا؟

 

لا شك أن أول ما نختبره به هو: هل ما ينادي به يتوافق مع ما سبق أن نادى به أنبياء الله الصادقون السابقون له (ذلك أن مجرد إجرائه معجزة لا يعني صِدق رسالته) إن من يقول عن نفسه إنه المسيح وقد عاد ثانية إلى أرضنا لا يمكن أن يجيء برسالة تناقض ما قاله المسيح الذي جاء أرضنا!

 

ثانياً: نطلب منه تأكيداً على صدق رسالته: معجزة، أو تحقيق نبوة يقولها، لنصدق أنه جاء من عند الله.

 

وعندما نادى محمد لأهل مكة برسالته وقال إنه نبي الله ورسوله، طالبه سامعوه من المكيين واليهود بمعجزة تؤيد صحة كلامه ولم يكن هذا قساوة قلوب من جميعهم نعم كان فيهم كثيرون قُساة القلوب، ولكن كان بينهم يهود أتقياء صالحون، كما يشهد القرآن لقد قال المكيون واليهود إن شهادةً واحدة لا تكفي، وطالبوا بتأييد إلهي لأقوال محمد لقد طالبوا بما طولبوا به: (إثنان ذوا عدلٍ منكم).

 

الفصل التالي    الفصل السابق

 


القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم

القرآن والعلم

كتب أخرى

الرد على الإسلام